زمن الرحيل
عدد المساهمات : 757 تاريخ التسجيل : 15/08/2008
| موضوع: كل عام وأنتم بخير الأربعاء ديسمبر 31, 2008 4:27 pm | |
|
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فيا من لا تزالون تدبون على وجه الأرض.. ولا تزال الأنفاس منكم تتراوح..
كل عام وأنتم بخير.. آباء وأبناء، شيباً وشباناً، وكل عامٍ منذ أن هاجر المصطفى - هجرته الأولى ونقلته المباركة من مهد الرسالة إلى بزوغ النبوة ونحن جميعا بخير وصحة وعافية وأمن وطمأنينة - إن شاء الله.
أخي المسلم الكريم وأختي المسلمة العزيزة.. حياكم الله بتحية البقاء الأبدي.. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته..
حديث الإنسان حديث طويل بدأت سطوره منذ الصرخة الأولى وإلى النَفَس الأخير تطوى صفحاته، صفحات يطوي بعضها بعضا، يجددها الزمن وتفصلها السنون، وتبلى حلوها الأيام، وهي سائرة لا تتوقف شاء العامل أم أبى، فليجتهد المجتهدون وليقصر المقصرون فإنما هي أيام!! وهي الأيام تعمل بابن آدم وللطريق نهاية، ومع صفحاتنا الماضية ذكريات لعام مضى.. وكل عام وأنتم إلى الله أقرب.
إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل.
ربّاه.. إنّا هُدنا إليك..
ها قد حططنا الرحال بعد سفر طويل شاق حافل بالمسرات مشحون بالأحزان.. ها قد طوينا سجلاً الله أعلم بطيّاته: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6].
مضينا مع الركب سائرين عاما كاملا. ولم ندر رؤوسنا إلا عندما قيل: هو قد انتهى، وعندها وقفنا لنلتفت إلى الوراء، وإذا بالحقيقة ماثلة أمام أعيننا - نعم عام مضى!..
مضى بلا عودة، ودّع فأوجع وأدمع، ودّع وهو يقول تصريحاً لا تلميحاً: لمثل هذا اليوم فلتبكوا ولضياع أيامه تحسروا، ولإنصرام دقائقه وثوانيه عضوا الأصابع، وإياكم أن تعيدوا الكرّة في القابل..
مضى بلياليه وأيامه، حلوه ومرّه، حسنه وقبيحه، أجره ووزره، ثوابه وعقابه..
مضى، والقلوب ما زالت - يا ويلتنا - جلمدا، هي كالحجارة أو أشد قسوة، فهل يا ترى ستلين؟
مضى، وما في الجعبة إلا القليل، وعساه أن يُقْبَل!
مضى، وتلعثم في اللسان لم يتفيهق بعد، وغشاوة على القلوب لم تنجلِ، ورين فيها ما زال مغلفا..
مضى، وأهلة لم تفصح، ودمعة ما زالت تترقرق، وزفرة تتهدج، ولوعة تتحشرج، وأنة تتمتم: ليتك تنتظر!!
مضى، والحسنات تجدوحشة، والسيئات آمنة مطمئنة!
مضى بسلمه وحربه، أمنه وخوفه، شدته ولينه، صحته ومرضه، صمته ونطقه!!
مضى،ومازالت في القلب نكتة، إن لم تكن بقعة!
مضى، والسؤال ما زال يضرب أطنابه: ألم نعٍ بعد ديننا؟ ويحط رواحله، ألم نفقه واقعنا؟
مضى، ويقظة تنتظر هنالك سبات النائمين، غطيطهم آذى من لا سمع له.. ميتة صغرى، ويبدو أنه حتف أكبر!
مضى، والنفوس - ويحها - ما زالت ترجو المزيد تأكل بنهم كأنها من الموت آمنة وفي الجنة خالدة!
مضى ولم يجد استعطافنا ورجاؤنا وبكاؤنا وتحننا ولى دون ان تهيجه عبراتنا أو يلينه توسلنا.
مضى، ولم يبق سوى ذلك السائل الذي يسمونه دموعا يسيل أنهارا على خدودنا الأسيلة بصمت محرق ونفس متقطع.. تتهدج واهاً لها الآهات وتتردد الحسرات..
وكل عام وأنتم بخير
أواه، كيف يكون الاستقبال لضيفٍ قد يحمل ما حمل المودّع، أو ينصرم كأخيه؟
يا رب اجعلنا فيه من المخلصين الصادقين، المتضرعين المتبتلين، المشمرين عن سواعد الجد، المتأهبين للنهل من معين القرآن واللري من سقيل الإيمان يا رحمن..
ثمّ أما بعد: فثمرة الحسنة حلوة خضرة، وللسيئة ثمرة وإنك لا تجني من الشوك العنب.. فالحسنة الحسنة والغنيمة الغنيمة واعتبر بمن مضى وجُدْ تجدْ، وقف فقد فاز من وقف.
المحاسبة حقّ نفسك عليك ففك أغلالها وقيودها كل ليلة تكن من الرابحين، وإلاّ كنت من الخاسرين والمحاسبة المحاسبة..
الصحة والعافية أمل المرضى والمبتلين، وها أنت صحيح معافى فاعمل في الأيام قبل أن تعمل فيك..
تمنى التاجر لو زاد من وقته ليزيد من تجارته، وأنت غني بوقتك تاجر بأعمالك، فطيب تجارتك بحسن أعمالك، واغتنم أوقاتك بثمرة أفعالك..
ولسيرة من مضى من سلفنا الخير آفاق وأشواق فلا تكن منهم ببعيد، فقد كانوا على أعمارهم وقافين، وأشحّ على أوقاتهم من الشحيح أن يجود بدرهمه..
رسالة الأيام.. يصوغها لسان الدهر ويحملها مظروف الهدى لتخرج إلى النور.. نور يشع بأيام مضت وبأعمال بقيت على لسان السلامة من كل إثم والغنيمة من كل برّ وبرجاء الفوز قالوا..
قال : { لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه }. كان الحسن يقول: ما مر يوم على ابن آدم إلا قال له: ( ابن آدم إني يوم جديد وعلى ما يعمل فيّ شهيد وأخّر مل شئت فلن يعود أبداً إليك ).
والزمن يمضي: ابن آدم.. إنما أنت أيام فإذا ذهب يوم ذهب بعضك ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل.
ومن أصدق الشعر:
ٍإذا كنت في الأمس اقترفت إساءة *** قثنِّ بإحسان وأنت حميد
ولا ترج فعل الخير يوماً إلى غدٍ *** لعل غداً يأتي وأنت فقيد
ويومك إن عاتبته عاد نفعاً *** إليك وما ضحى الأمس ليس يعود
وناجِ ربك..
ربّاه.. إن قست علينا الحياة..
وإن افترقت بنا الدروب..
وإن أظلمت علينا الدنيا..
وإن عض الألم علينا بنواجذه..
وإن ألهبت أقدامنا هواجر الزمن وكوتنا رمضاؤه..
وإن فارقت الروح بعضها، ورحل ساكنو سويداء القلوب..
وإن تحرّقت أكبادنا عطشاّ..
وإن تفرّحت الجفون.. وإن ضاقت شؤوننا بعبراتها..
فمن لنا سواك؟؟
نسأله ونرجوه.. فإن إبعدتنا فمن ذا الذي يدنينا؟؟
واهدنا لصالح الأعمال، والأقوال، والأفعال، والأخلاق، والأرزاق، وجُد لنا بكريم لطفك، وواسع فضلك، وافتح لنا خزائن رحمتك، إنك أنت الوهاب.
| |
|